الأحد، 18 مايو 2014

التاج الأبيض

لم يكن صباح الخميس عادياً، للمرة الأولى لم تلفت انتباهي المحلات المرصوفة على جانبي طريق الأوزاعي، لأن أفكاري كانت كلها عند سعيد، الشاب العشريني، الذي توفي وسماعتي الحزينة تلتقط آخر الخفقات من قلبه الطاهر. حالياً، يرقد سعيد في قبره مرتاحاً من عذاب ورم العظام الذي أكل من حياته سنوات.

لم يكن صباح الخميس عادياً، لأن قلب ليلى العليل كانت تدكه حرارة شديدة. أصبح قلبها مجنوناً يرقص بدون وازع. قلبها الذي عانى كثيراً وخضع لعمليات جراحية متتالية لم يتحمل العلاج الكيميائي القاسي فتوقف مؤقتاً بين يديّ، وتوقف نهائياً صباح اليوم التالي. كانت لحظات الأسى المتوالية تدك قلبي الذي تعود الحزن لكنه لم يتعود الموت بعد.

إن الحزن والموت جزءان أساسيان من يوميات طبيب أورام الأطفال. يحاول أكثر الأطباء خبرة وتجربة التعود عليهما وممارسة كل أنواع الحنكة لتفادي تأثيرهما على حياتهم لكنهم يفشلون دائماً. حسناً، إن الموت سنة من سنن الحياة، لكن موت طفل مصاب بورم قابل للعلاج يحفر عميقاً في قلب طبيبه. يتذكر دائماً اللحظات الأولية لتشخيص مريضه، والحوار الذي دار بينه وبين الطفل وأهله عن نجاعة العلاج، و"مخاطره"، لا يملك الطبيب ولا المريض ولا الأهل إلا فرصة واحدة، البدء بالعلاج وخوض المخاطر، وأيّ مخاطر؟ الآن وقد ماتت ليلى ذات القلب الأبيض، عرف الجميع معنى المخاطر! 

كانت أم سعيد أماً صبورة، عانقت ابنها، وكتمت بكاءها، قبلته وودعته، كذلك فعلت أخته وأبوه. كتمت دمعي في قلبي. أما أهل ليلى، فكانوا على قدر عال من الحب رغم كل الحزن الذي ألم بهم. وصلت إلى العناية المركزة دقائق بعد وفاتها، تلقتني أمها بدمعة، وتلقاني أبوها بقبلة. تبادلنا النظرات والكلمات. لا أتذكر أياً من الكلمات لكن النظرات سكنت أعماقي. كنا نتحدث بدون وعي. بالأحرى، كانت عيوننا المبلولة تتحدث عنا. لم أستطع كتمان دموعي عندما عرض أبوها عليّ منظرها وهي ترقص منذ أيام قليلة على سريرها الذي سيشتاق إليها. لا أعرف لماذا أرتاح عندما أبكي. ربما اخترت هذا النوع من الطب لراحة ما بعد البكاء! 

إن النهايات الحزينة الرطبة ليست هي النهايات الوحيدة في هذا المجال، بل إن النهايات السعيدة الرطبة هي الجزء الأكبر والأجمل. إن لارين، االلابسة لتاج الشفاء من نفس ورم العظام الذي أصاب سعيد رحمه الله، قد أعادت الحياة إلى قلبنا الحزين، إن بسمتها وفستانها الأبيض وضحكتها البيضاء يغسلان القلب من كل الأحزان المتعاقبة. قدرنا أن نتعلق بالفساتين البيضاء الجميلة أينما كانت، وبالابتسامات البيضاء، الميتة والحية، الطاهرة والبريئة، كيفما ظهرت!

--
توضيح: الشخصيات المشار إليها وهمية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق