الخميس، 9 يونيو 2011

الليالي الحمراء

الليالي الحمراء
أكره الأيام الأولى في التعامل مع طفل اللوكيميا لأنها تحمل من التعب النفسي للمريض والأهل أكثر مما تحمله السنين المتتابعة في العلاج. أحب أن أطلق عليها الليالي الحمراء لأن عناوينها الأساسية هي: الحب والدم! 

عادة ما يتعزز حب العائلة والعلاقات التي تربط أفرادها في هذه الليالي الأولى بعد تشخيص المرض. الأب والأمّ يعيشان شهر عسل جديد في المستشفى إلى جانب الطفل أعانه الله. إن اجتماع الجد والجدة، الخال والعمّة، يذكّر الأهل بالليالي الخوالي. اليوم يجتمع الكلّ حول جسد الـ little lady الذي أنهكته الخلايا الخبيثة، كلّهم ينظرون إليها بالحب والحنان، يتذكّرون في عيونها أيام الصحّة، وتسرح خيالاتهم فيما ينتظرها من معاناة لا تعرف عنها إلا القليل.صباح اليوم فقط، كان الجميع سكارى عما يجري داخل أوعية الدم في جسدها الذي بدأ ينحل ويضعف في الشهرين الأخيرين دون أن يعرف أحد السبب. لقد كان عصر اليوم تاريخياً بكل معنى الكلمة، إنه الزمان الذي ستتحول فيه طبيعة حياة العائلة المتحابّة كلّها إلى حياة جديدة بعد أن عرفوا نتيجة فحص الدم المؤكدة للمرض. إن ما بعد 8 حزيران سيكون مختلفاً لعائلة السيدة الصغيرة هذه!


أما قصة الدمّ فإنها عويصة. كنت قد تحدثت في السابق عن استراتيجيات الحرب ضد سرطان الدم، لكنّي لم أفصّل في استراتيجيات الحرب النفسية ضد الخوف والحيرة والغضب والألم التي تواجهنا كل 6 ساعات عند سحب الدمّ من جسد السيدات والسادة الأطفال في الأيام الأولى من العلاج. تبدأ الحيل بإخفاء الإبرة وملاعبة الـ little lady ومناقشتها في حبّها لمعلمتها في الصفّ، وفي أنّها ستحبّها أكثر إذا ما كانت متسامحة مع الأطباء وسمحت لهم بسحب الدم، ولا تنتهي مع دموع الأب والأم والطفلة والطبيبة! هذه جولات مكّوكية نخوضها كل 6 ساعات على مدى أيّام! أنا أرى أن توفير طريق سهل لسحب الدم دون ألم يعتبر أمراً إسعافياً إنسانياً في هذه الحالات. إن ما يقوم به الجراحون من وضع هذه الحالات على أولويات جدول عملياتهم لوضع خطّ مركزيّ لتسهيل سحب الدمّ وإعطاء العلاج الكيميائي هو أمر في غاية الإنسانية (وهذا ما يحدث في مركزنا)، أما تأخير العمليات بداعي انشغال الجدول فهو ليس مقبولاً بكل المعايير الأخلاقية والطبيّة.

يذكّرني مهدي، 15 عاماً، بالليالي الحمراء التي عاشها منذ شهور مضت كلّما دخل إلى العيادة لمتابعة علاجه المستمر. إنه يرى أنها ستبقى مطبوعة في قلبه إلى الأبد، عسى أن تكون ذكرى لا تعود أبداً!


--
توضيح: الشخصيات المشار إليها وهمية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق